سبهان آدم: فساد العالم أفقد لوحتي براءتها
بعد مرور نحو سبع سنوات على بداية الحرب السوري، ما زال الفنان السوري سبهان آدم (مواليد الحسكة 1972)، يواظب على تخليق كائناته الماكرة في مرسمه الكائن في شارع العابد الدمشقي. وبعد شهرة طافت صالات لندن وباريس ونيويورك ودبي ومتاحفها، ظلّ آدم مفعماً بشغفه نحو لوحته التي عمل فيها على أسلوبية التشويه، مقتحماً فضاء العاصمة بأسلوب خاص في صياغة العمل التشكيلي وفهمه لماهية هذا العمل لجهة نبش ألغاز الكائن البشري عبر فلسفة نادرة في تشريح وحشيته وقبحه وبلاهته. مئات اللوحات اشتغلها آدم على تقنيات اكتشفها بنفسه في معالجة الباستيل والأكرليك والفحم، متسلحاً بيقين الشك ونظرية العماء الكوني.
التقت «الحياة» الرسام السوري سبهان آدم وكان معه الحوار الآتي:
بعد قرابة سبع سنوات من الحرب، ما الذي طرأ اليوم على رؤيتك الفنية؟
التغيير على المستوى الفني ليس موجوداً، لأنني كنت اشتغل، حتى ما قبل الحرب، على موضوعات الفجيعة والتغريب. فالحرب لم تغيّر من وجهة نظري إزاء البشر ككائنات تعشق أذية بعضها بعضاً، لكوني أرى أن أعمالي التشكلية تُظهر أيديولوجيات متعددة. فأنا مع لوحتي راديكالي متصلّب إزاء الخطّ الذي أشتغل عليه، وهذا الخط موجود ومستمرّ حتى اللحظة الأخيرة من حياتي. صحيح أنني بيداغوجي- تربوي مع الغيب، لكنني أعتبر عملي أشبه بـ «حلاّل عُقد» تفكيكي لأي منحى سياسي أو اجتماعي ولأي جماعة بشرية. لدي أكثر من فهم لما يدور من حولي، باستثناء الرسم الذي لا أقبل إلاّ أن يكون بهذا التطرّف للأسلوبية التي انتهجتها في لوحتي. عملي الفني صامد وليس له أي منفذ على الإطلاق لأي تغيّر أو تزحزح في المنظومة التي أعمل عليها على الإطلاق، هذا مستوى عميق وباطني لما أشعر به إزاء لوحتي، ثم تأتي مستويات أخرى لدي لها علاقة بالقشور، فالحرب سمعت بها بعد مرور أشهر ولم أتوقع أن يحدث ما حدث. التغير العام هو تغير في أمزجتي عند النظر إلى ما أوصلتنا إليه هذه الفاجعة من نتائج على المستوى الشخصي واجهتها بهدوء ومن دون تشنجات من مثل طباعة الكتب المواكبة لكل مرحلة من مراحل عملي، وندرة الألوان والأقمشة التي أحتاجها للعمل في مرسمي، متسلحاً بصلابة تخصني في كل لحظاتي.
ولكن يبدو أنَّ أعمالك استشرفت ما سيحدث في العالم العربي، لا سيما عن تلك التكوينات التي نراها في لوحات صورت رؤوساً بشرية مقطوعة؟
الزمن لديّ مضغوط بمعنى أن كل ما أنتجته البشرية من عقائد أو لاهوت أو عادات وأنماط عيش وعلوم وأوبئة وحروب، سواء كانت قديمة كالحربين العالميتين الأولى والثانية أو الحروب الحديثة في لبنان وسورية والعراق وليبيا واليمن... كل هذا كان مُستشرف لدي مع أن الشخوص التي أرسمها تبحث عن سلام دائم أمام هول هذه الصراعات الدموية. فكل ما حدث وسيحدث من حروب جديدة إن كان في آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية، هو بالنسبة إليّ تحصيل حاصل. فنحن في كوكب صراعات وليس من جديد تحت الشمس، هكذا كنت أنظر عبر لوحتي وسأبقى.
كنت واحداً من الفنانين التشكيليين القلائل الذين لم يتركوا دمشق في الحرب، فرسمت تحت القذائف وبجوار السيارات المفخخة؟ لماذا اتخذت هذا الخيار؟
البقاء في دمشق هو خيار شخصي أتحمّل مسؤوليته، لقد أردت أن أبقى قريباً من الحدث. فالرسم يحتاج الحضور في المكان، الرسم من خارج سورية عما يحدث داخلها أراه مجرد مرثيات عقيمة تحت إنشاءات وعناوين تسويقية لا أكثر. كلَّ ما حدث من هذا الجنون، قد تجد أشخاص يقفون ضدّه خمسين بالمائة أو يؤيدونه، لكنّني أقف ضده برقمٍ لا متناه من الأصفار. أقف ضدّه مليارات مضاعفة، فأنا ضدّه على المستوى الشخصي كرسّام كان لديه حلم عملاق رأيت كيف تمّ تفكيكه أمام عينيّ وليس سهلاً أن يتفكك، ناهيك عن الإرباكات والعراقيل التي واجهتني في هذه الحرب، بعيداً عن المتداول، أتذكّر اليوم سورية الجميلة قبل 2011. قد نروي ما حدث لأحفادنا وأبنائنا وسنخبرهم أن سورية لم تكن كما ترونها اليوم، لكن هل سيصدقون؟ لا أتوقع.
إذاً كيف ترى بلادك اليوم بعد كل هذا الخراب؟
أتصوّر أنّ سورية الآن اغتيلت. لقد كانت امرأة جميلة جاؤوها الكلاب من كل الجهات في ليلة غدر، عصابات ودول ناقمة على هذه البلاد الوديعة البريئة من قمصان الدم التي تمّت حياكتها لها. صراع دفعت أثمانه تلك الطبقة البيضاء التي لم تنخرط في العنف، اليوم يتحدثون عنا في الأخبار وكأن ما يقارب خمسة عشر مليون إنسان سوري لم يغادروا أراضيهم وبيوتهم. هم مجرد «قطط» يتحدث الآخرون عنهم في الإعلام ومؤتمرات السياسة. هؤلاء الملايين من السوريين لا يذكرهم الإعلام في تقاريره ولا في هيئات حقوق الإنسان ويعتبرونهم فائض ديموغرافي يجب القضاء عليه.
هل ما زلتَ تشعر أن هذه الطبقة البيضاء أو ما كان يطلق عليها الأغلبية الصامتة ما زالت موجودة؟ ألم تتعرّض للتجريف والتهجير نتيجة الحرب المستمرة بلا انقطاع منذ سنوات؟
أجل موجودة، وهي كنه وجود السوريين كشعب لا يموت، ولكن هذا الضخّ الإعلامي الهائل لم يغيّر من قناعات هذه الطبقة، إلا أنّ هناك دائماً كواتم صوت تُستخدم لكمِّ أفواه أبناء هذه الطبقة (وهم بالملايين كما قلت لك)، ومنظومتها هي منظومة العائلة السورية المنكوبة التي لا حول لها ولا قوة. هؤلاء لديهم أعمالهم وأشغالهم اليومية، لديهم أحلامهم ولم يستشاروا في حرب أو ربيع أو صقيع، هذا أستشفه من عائلتي على الأقل التي يتشابه حالها مع حال آلاف العائلات السورية التي كانت فريسة هذا الجحيم. الموضوع هنا مركّب وليس بهذه البساطة، وهناك دائماً عشرات الآراء المختلفة والمتباينة. فالجميع يعتقد أنه على حق، ومع دخول السلاح على خط المواجهة تحوّل الصراع من محلي إلى إقليمي ومن ثم إلى دولي كما يعرف الجميع. بالنتيجة الوضع معقّد جداً.
بات من الواضح أن المتتبع لتجربتك التشكيلية يلاحظ جفول الكائنات التي تولد مع عطبها وعلاتها في لوحاتك؟ اليوم هل أحدثت الحرب ذلك الانقطاع بينكَ وبين هذه المسوخ التي ترسمها؟
لم يحدث لدي قطع مع كائناتي، فتواصلي مع البشر غير مرهون باللغة التي أعتبرها منقرضة لدي مع الآخر، كل ما أراه هو بصري محض. فأنا أعيد تفكيك الكائن البشري أمامي وأضع له معادلات اللحم وتورماته وأمراضه، حيث أتقصد أن أضع لكائناتي روائح متعددة، أضع لها روائح مفعمة بالخزامى، النبتة التي كنتُ قد عايشتها يافعاً في الحسكة، كل هذا أضعه كاختزال للشِّعر ولخلق عالم طوباوي أفلاطوني متعدد لكنه يشكل لي إمبراطورية في الدماغ، يرسم لي بلد فيه شعب ومخاتير وقرى، فالكائنات التي أرسمها تولد في الأقمشة من اللاشيء، والكائن الذي أرسمه هو موجود ويشكل لي معنى وجودي، هذا الكائن بعد تخليقه على القماشة هو من يدافع عن وجوده وكينونته إذ أتركه لقدره. ما أقوم به هنا ليس له علاقة بأي نسق أو نظام بشري اعتيادي، بل له نظامه الخاص. ربما كان الانقطاع لدى الآخر عندما يرى لوحاتي فيشرحها بمفهومه الخاص ضمن انتفاخه الشخصي وتورطاته الذاتية. غالباً هكذا يرى الآخر لوحتي، أما أنا فلا أراها على هذا النحو، بل أراها تتحرك ككائن بلحمه ودمه وشحمه، ما أفعله هو تغيير الأزياء لهذه الكائنات التي أُلبسها ذلك الزيِّ الكرنفالي البهيج.
هل يمكننا أن نعتبر أن ذاكرتكَ الانفعالية البصرية هي النبع الأصلي للكائنات التي ترسمها؟
ذاكرتي أشبه بكائنات الخدَر، فالمشهد البصري للحياة يجعلني أشعر بالتنميل أمامه، الكذب الذي يسود العالم. ترامب، هذا الرجل الأخبل الذي يقود العالم اليوم يبعث لدي الفكاهة الممزوجة بالأسى، كذب العالم ونفاقه أو الاستناد لحل مشاكله بالغيب يبدو لي أمراً مضحكاً. داخل كل هذه الضوضاء تبزغ كائنات لوحاتي كمضاد حيوي لهذا الرياء والزيف العام، مضاد للرجال الكذابين ونساء البوتوكس وعمليات التجميل ونفخ الشفاه والأثداء والأرداف... لوحتي مضاد لكل هذا العماء. كيف لي وسط كل هذا البغاء الكوني أن أرسم لوحة بريئة. أخبرني؟ هذا يحتّم عليّ أن ألغي الطهرانية من حياتي، وأن أبني دولة دماغي، دولة خاصة بي، فأنا في الرسم رئيس حكومة نفسي.
هل نستطيع القول أنكَ تستمد موضوعات لوحاتكَ من ثراء العالم الداخلي الذي تمتلكه؟
لا أريد أن أتكلم عل هذا النحو، لدي برنامج يمتدّ على مدار عام كامل، أحقق فيه نحو مئتي عمل سنوياً. أعتقد أن هذا الرقم كبير بالنسبة إلى مقاسات الأعمال التي أحققها (210×160 سم)، وإذا سألتني عن الموضوعات فأنا لدي منها ما يكفي لسنوات مقبلة. هذه إستراتيجية شخصية أفرّغ لها ساعات طويلة يومياً من العمل والعزلة مع الألوان والأقمشة والكائنات التي تنساب من بين يديّ. أعمالي ليست استنساخ، بل مجموعة من ولادات عسيرة ومجهضة ودامية، ها مردُّه إلى كونني لا أرسم لوحة واحدة، بل أحاول أن أرصفها زمنياً، فكل لوحة لها زمن وكيان، لها حاضناتها وتسعةٌ من أشهر (وهنٌ على وهَن). ففي دماغي تسكن عشرات الحيوانات والكائنات السجينة التي تضرب جدران هذا الدماغ صارخةً: إرسمني يا سبهان وإلا رسمتكَ!...
بعد إغلاق صالات العرض في دمشق استمررت في الرسم... هل يعكس هذا الأمر نوع من التحدي الشخصي للحرب وانكفاء العديد من الفنانين إلى صالات الجوار؟
طاقة الرسم لدي مستمرة حتى اللحظة الأخيرة، مهزلة ما حدث للوسط التشكيلي في سورية، فحالة التسويق والبيع كانت لديّ قبل الحرب في وضع ممتاز جداً، وكان مقتنو اللوحات يشترون أعمالي وهم مغمضي الأعين، تخيل أنني كنتُ أبيع حتى قبل أن أرسم. لا علاقة لي بمنافذ البيع التقليدية فأعمالي لا تحتاج إلى غاليري أو مؤسسة أو مزاد، على خلاف الكثيرين ممن يتبعون هذه الآلية. ربما يحتاج الفنانون الجدد إلى هذه الآلية كي يربّوا ذواقة جدد لأعمالهم، لكنني بصراحة لا أشعر أنني في حاجة إلى ذلك، لقد تجاوزت ذلك عبر مؤسستي الخاصة. هذه الإجراءات والشكليات أعتبرها تابعة في العملية الفنية التي لا أفكر بها أثناء عملي على اللوحة، ما يعنيني هو اللوحة بيعت أم لم تُبع. كل هذا خدعة. المهم هو أن يكون لديكَ بصمتكَ الخاصة في أعمالك وهل هذه البصمة موجودة أم لا؟ الغاليري والمزادات هي مجرد وسائل، هل «الحرب والسلام» لتولستوي تحتاج إلى مطبعة فخمة حتى تباع أم أن النص هو من يفرض نفسه عل جمهور القراء؟ النص لدي هو اللوحة، هل هي جديرة بالاحترام أم لا؟