سبهان آدم رسام نافر و مختلف


عصام درويش

سبهان آدم رسام نافر و مختلف

ظاهرة سبهان آدم ترسخت كواحدة من الظواهر الأشد إثارة للجدل

أجرى الحوار: عصام درويش

"سبهان آدم" فنان خاص كيفما قلبت المسألة نافر و مختلف، و سواء أحببت ما يفعل أم لا فإنك في قرارة نفسك ستلقى ما ستجده أصيلاً فيه، خصوصاً ذلك العالم الذي ولده إجابة على سؤال بسيط:" هل سأرسم ما يبهج العين من الخارج، أم سأجد ما تركض وراءه النفس بعد الصدمة الأولى مذهولة و لن تتخلى عن التمسك به ومراوغته و التفكير فيه؟

في معارضه- انتابته عذاباته الأولى نفس كآبة و عزلة أشخاصه لدرجة أنه كاد في لحظة قنوط قوية أن يترك مشروعه و يذهب بعيداً، و قد سبب العالم الذي جال فيه و انتقى صوره الكثير من التشوش له و لمشاهديه الذين اعتادوا بشرات النساء الناعمة و مشاهدة الطبيعة الخلوية الساحرة فإذا به يلقي في وجوههم وجوهه التي انتابها قلق مزمن دفع بعظامها و عضلاتها إلى التغير و إعادة التشكل فبرزت منها استطالات ليست لها و اندفعت خارجها خلايا مركبة في حركات تنبئ عن هول ما تشهده.

لكن عالمه المقلق و الكابوسي لم يعف صاحبه من استمرار التوغل فيه بل إن ردة الفعل المباشرة على العروض الأولى شكلت سبباً إضافياً، في نوع من التحدي الصامت لمواصلة البحث و التنقيب في احتمالات ضلوع الكائن البشري في ما يحيله في نظر نفسه، على الأقل، إلى هذه الكتلة المرعبة من الخطوط التي تقف في مواجهتنا دون أسلحة الإخفاء الماكر المعتادة، مفضوحة و معلنة و كاملة العري النفسي كما لن تتمنى في أشد أحلامها تطرفاً.

مهرجو سيرك مفترضون مفزعون بشدة و كأنما يحضرون لمجزرة فورية "يقفون على طابات ملونة" مسالمة و طفولية إلى أبعد حد.

كتل مترهلة دون أرجل تلتصق على طاولات تنظر إلينا بحسرة تحاول أن تقنعنا أنها لن تقفز في أقل من جزء من الثانية لتلتهمنا على طريقة السحالي المسالمة على الأغصان الطرية لأشجار الجحيم الحمراء.

شياطين و أبالسة ودودن يلبسون عباءات ملونة بوجوه بأكثر من عينين غالباً، تنظر بحنو غاضب إلى عيوننا الطرية مفكرة في أسرع الطرق لمداهمتنا عند الثالثة صباحاً و قبل صياح أي ديك حقود، بقصد التهامها.

كما نجد في لوحاته أشباهنا بعد تحولهم إلى كتل غامضة من الغزاة تلبس أقنعة بدائية مضادة لأنواع محددة من الفيروسات ينظرون بحذر إلى عالمنا الرغيد متمنين إزالته باستخدام مواد صيدلانية لطيفة و صديقة للبيئة.

و الرغيب أن سبهان آدم قد ابتكر عالمه من جمع صعب و معقد لحقلين كبيرين: حقل مجتمع الشمال الشرقي لسوريا بما يحمله م نتناقضات و غنى منظومة الآليات البشرية الآتية و المستجرة من تاريخ طويل من العذابات و الانتصارات و الخيبات و حقل مكتبة المركز الثقافي في الحسكة النافذة الضخمة التي أطل منها على آداب و فنون العالم الخم أواسط ثمانينات القرن الماضي ملتهما سطور أدونيسو ابف بونوا و أنسي الحاج مشاهدا صورا سيئة الطباعة غالبا لأعمال عدد محدود من الفنانين المحليين و العالميين و رغم أنه فكر بداية أنه سيصبح شاعراً و قد طتب الشعر فعلاً إلا أنه اكتشف أنه سيصبح رساماً، ؤساماً عالمياً بالضبط.

و قد قيل عنه الكثير: أحد أهم فناني ما بعد الحداثة في العالم العربي..." "فنان اتسعت رؤيته حتى تجاوزت الاهتمام الجمالي إلى قيم القبح في محاولة لقشط القشرة الخارجية للذات" "أشخاصه يتخلصون من سجنم المحلي ليختفوا في زنزانة الوجود العبثي" "تجربته تكشف أزمة تمثيل الواقع داخل الثقافة العربية الاسلامية"

هذه بعض جمل نقدية حفلت بها مقالات منشورة في أكثر من مطبوعة عربية و أجنبية عن تجربة الفنان التشكيلي السوري "سبهان آدم" الذي تظل كائناته من خلال لوحاته و كأنما قدمت من عالم القلاع الرطبة للقرون الوسطى يتجول فيها أشباه دراكولا متمتعين بروح الفن المهرطق الذي ينبعث منها.

شخوص بعيون منتفخة تتتوزع بلا نظام على وجوه برزت منها أيد أفعوانية جافة ربضت مثل كتل شخصية مترهلة لأشباه كائنات تتوالد من أرض كوابيس مفزعة تقف على كرات ملونة كلاعبي سيرك في عالم مجنون أو تجثم على طاولات مستديرة ذات وجل واحدة في جلسة تصوير مفزعة أو كائنات حيوانية بوجوه بشرية علقت من أرجلها أو طيور تتوسط اللوحات ذات سواد مبهم و مقلق.

عالم زائغ و مفزع ينتمي إلى أسرة طويلة مم أرشيف تاريخ الفن حيث تستدعى العوالم الداخلية المعقدة إلى الخارج فيما يشبه الفضيحة و يجري تصويرهاو تشريحها تحت مجهر شديد التشوش و لكنه كاشف إلى أبعد الحدود.

ولكن بعيداً عن مصطلحات مثل "أخطبوط العلاقات العامة" و "مافيا الفن" و الكثير غيرها من التعبيرات التي تملأ المقالات الصحفية المازحة و الجادة على حد سواء فإن ظاهرة سبهان آدم التي تكونت من جملة معقدة من العوامل التي ساهمت أعماله فيها و هو شخصياً و العديد من الأسباب المتشعبة الأخرى قد ترسخت كواحدة من الظواهر التشكيلية الأشد إثارة للجدل.

عن عالمه و عنه كان لنا معه هذا الحوار.

  • تجربتك التشكيلية من التجارب الإشكالية فأنت لم تدرس الفن دراسة أكاديمية و يتردد اسمك و تنتشر أعمالك داخل وخارج سوريا، أين ترى موقعك بين فناني سوريا؟

  • عندما بدأت بمشروعي الفني لم أفكر بموقعي في سوريا، بل فكرت بشكل مفتوح بدأت فوراً برسم أعمال كبيرة و لم أفكر أين ستعرض و كيف و إذا ما ستكون مقبولة كانت فكرة البذل و الصبر للوصول إلى الهدف وراء كل ما أقوم به كان في خيالي وقتها الشعراءو الروائيون و الفنانون باختصار كل المبدعين الذين ضحوا بكل شيء من أجل قضية الفن دون حساب للربح و الخسارة على الصعيد الشخصي. طبعاً تابعت ما يجري في العالم من خلال المركز الثقافي العربي في الحسكة حيث ولدت و كانت النافذة الوحيدة على الثقافة لدي، تابعت كل ما كانت تقع عليه يدي خصوصاً الشعر قرأت أدونيس، أنسي الحاج وايف بونوا... و عندما توجهت للرسم فكرت فيه مثلما نفكر بولد معوق و يحتاج إلى كل الرعاية و العناية هكا تعاملت مع فني... و قد قدمت من أجله كل ما أستطيع و كانت خبرتي في البداية ضعيفة جداً و مع الزمن الطويل و العزلة التي فرضتها على نفسي وحيداً في مرسمي بدأت النتائج فصبح مقبولة و تحسنت مع الزمن رؤيتي و تقنيتي و التعبير عن عالمي و الحقيقة أن الاهتمام بفني بدأ خارج سوريا ثم انتشر إلى اكثر من بقعة في العالم بما فيها سوريا لاحقاً.

  • أقمت العديد من المعارض الخارجية في البداية في فرنسا خصوصاً و صدر عنك كتاب قدم له الشاعر أدونيس كيف حدث هذا في تلك الفترة المبكرة؟

  • حدث هذا بالتعاون مع واحدة من الغاليريات المهمة في باريس و التي سوقتني بشكل ممتاز و هي من قام بطباعة كتاب عني مع مقدمة الشاعر أدونيس و لكن بعد هذه التجربة و الشهرة في بلادأخرى بعيدة أجد نفسي كفنان و من الداخل العميق أرغب أكثر بالتواجد في سوريا، في أوربا يرغبون كثيراً في الإطلاع على ما يجري عند الآخر المختلف خصوصاً عندما يكون مختلفاً حقاً و لكنهم يدافعون بشكل شرس عن تجاربهم المحلية و هي تعين الثقل الرئيسي لديهم و هذا لا يتوقف على أهمية العمل الفني و جديته بل على مسائل أكثر تعقيداً. و رغم أني احدثت اختراقاً بشكل شخصي إلا أنني أعرف مدى الصعوبات و أحللها بشكل جيد. و بالنتيجة الحاضنة الرئيسية هي حاضنتك الجغرافية و ها درس يجب أن يفهمه الفنانون الشباب خصوصاً و هو درس يتدخل فيه بالإضافة إلى الفن القرارات السياسية و الظروف الاحتماعية و الاقتصادية.

  • يبدو السؤال عن تأثير البيئة على الفنان بمثابة مزحة أحياناً، خصوصاً لدى مقارنة تجارب منبثقة من نفس البيئة. ما المؤثر حقاً في المكان و الخصوصية الاجتماعية للشمال الشرقي السوري في تجربتك الفنية؟

  • أعتقد أن تأثير البيئة كان محدودا بشكل عام، و كان للمخيلة الدور الأكبر. بيئة المعرفة و الثقافة كانت أكثر تأثيراً. أقصد هنا الشعر السريالي و غيره. طبعاً لا يمكن دحض تأثير المكان و الناس و البيئة الاجتماعية بتعقيداتها . تجانس الناس أو تنافرهم، الفقر و مصائبه. طفولتي مثلاً لم تكن وردية و حمولتاه تظهر الآن بقوة و شراسة في أعمالي. العنف لم يكن غائباً عن طفولتي و أعتقد عن طفولة الكثيرين من أبناء جيلي. أذكر إلى الآن أمي، و هي عراقية الجنسية حين كانت تبكي بصمت لأنها كانت تشعر بشكل دائم أنها وحيدة بدون أهل لمدة 25 سنة و هذه من مناظر طفولتي التي لا تمحى. هناك طبعاً بيئة قاسية على العموم و هي التي تولد كبتاً و حرقة.

  • كيف فكرت بالرسم؟

  • اهتممت بالبداية في الصحافة و كان عمري 14 سنة و بعثت مقالات إلى الصحف و كتبت الشعر في الفترة نفسها. و أذكر أنني اشتريت كتاب شعر لايف بونوا قرأته و مزقته ثم اشتريته و مزقته عدة مرات. و قد لاحقتني نصوصه طويلاً كما أذكر أنني اطلعت على كتاب "التشكيل المغربي المعاصر" و تأثرت كثيراً حين قرأت فيه عن بعض الفنانين الذين لم يدرسوا الفن بل مارسوه مباشرة و لهم معارض في المغربو باريس وبرشلونة، و ظلت هذه الجمل تلهمني و تقويني و تعطيني الأمل و المبرر كي لا أيأس، لقد كان كتاباً ممتعاً بحق و أتى بظرف عجيب حين كنت وقتها أبيع الدخان في الشوارع كما عملت في بقالية فترة من الوقت. و لكنني تجرأت أخيراً و اشتريت الواناً زيتية و رسمت على الكرتون الذي يوضع كخلفية للقمصان الجديدة. و الحقيقة أنني لم أكد أنهي لوحاتي البسيطة الأولى حتى قررت تغيير اسمي.

    وقتها كنت اذهب إلى معارض فناني الحسكة ، صبري روفاييل مثلاً، وكان اهتمامي الأول هو معرفة الجانب الفكري للأعمال الفنية و هو الجانب الذي شغلني طويلاً. عندما أرى لوحة فيها كراسي فارغة مثلاً يلازمني السؤال لدى مشاهدتها: لماذا هي فارغة؟ و أعتقد أن الكثيرين الآن ممن يشاهدون المعارض و الأعمال الفنية لا يزالون يطرحون على أنفسهم مثل هذه الأسئلة البسيطة التي تختلف كثيراً عن أسئلة الفنانين و المختصين. و أذكر أن لوحاتي الأولى حملت عناوين طريفة مثل "الذباب الشريف" و قد حفلت لوحات معرضي الأول في المركز الثقافي العربي في الحسكة بتجارب تطبيع الألوان للظفر بأشكال مختلفة. كان عمري وقتها 17 سنة و أعتقد أنهم عرضوا لي على سبيل الشفقة و كان وضعي على الصعيد المادي رهيباً و كنت على شفا العوز الكامل. و أذكر أنني لما ذهبت إلى البيت إلى افتتاح المعرض ماشياً و أنا أقطع الجسر عثرت على عشر ليرات سورية مرمية على الأرض، و كانت تلك من اللحظات السعيدة في حياتي.

    في ذلك الزمن كنت محظوظاً لأنني لم أضطر لعرض أعمالي على الفنانين قبل المعرض الأول و إلا لقالوا لي: اذهب إلى المركز لتعلم رسم الكؤوس و الفخارات. لقد أنقذني معرضي من تعليقات كثيرة كهذه. و حتى هذه اللحظة اذا أعطيتني وظيفة رسم وجه على الطريقة الكلاسيكية ربما لا أستطيع إنجازه.

    و لكني امتلكت وقتها القوة لعرض أفكاري و كنت ألجأ إلى التصعيد حين أستفز فلا يجرؤ الكثيرين على فتح نقاشات دون جدوى معي. و بعدها تعرفت بشكل أقرب إلى بعض الفنانين الذين كانوا يملكون المناقبية و الحنان و اللطف و التضحية و حس الفكاهة كما تعرفت عن طريق بعضهم إلى كتب و منشورات لبعض الفنانين الأوربين المهمين: كوكوشكا، سوتين، أيغون شيللي... و تأثرت بهذا كثيراً، أما تجربتي كما هي معروفة الآن فقد احتاجت إلى وقت و الكثير من التعب و المعاناة و يمكن القول أن العام 1996 يعين بدايتها القوية.

    • أنشأت بيئة خاصة في قلب دمشق فبيتك ينتمي إلى عالم البذخ المفرط، و حين تتذكر نومك في البدايات على رصيف كلية الفنون الجميلة نستغرب المعادلة. ما الذي أملى هذا التحول؟

    • المال و الشهرة أتيا بعد فترة تشرد و حاجة طويلة و لكن رغبات الصعلكة و التشرد و أحلام امتلاك العالم كانت قد تشكلت لدي منذ وقت طويل. و أجد أن التفكير بالأشياء اللطيفة التي توفرها الملاءة المالية كالسعادة و الرغبة في إسعاد الآخرين هي من دواعي سروري الدائمة، و هي جزء من التفكير بكرم تجاه العمل و تجاه الآخرين. و أنت عالم أن الأشياء زائلة و أنه من المفيد التمتع بالوقت المتاح بأفضل شكل ممكن.

  • قرأت في مكان ما أنك تأثرت بالفنان "موراندي" و هو ما أثار استغرابي بسبب التناقض الكبير بين عالمهو عالمك. ما الذي أثر فيك بالضبط لدى "مورانتي"؟

  • تأثرت بطريقة وضعه للون، خصوصاً الألوان الخافتة، الأبيض على السكري، و رغم تركيزه على الطبيعة الصامتة فإن عمله يحمل غضباً شديداً. قبل معرضي في المركز الثقافي الفرنسي أسكن في غرفة صغيرة في فندق بالمرجة و قد أقنعت صاحب الفندق وقتها بان يمولني بالألوان و الترابات. وقتها كانت لدي الطاقة من اجل الوصول بغض النظر عما أقدمه و عملي يرتبط بكل المكتسبات التي حققهاالفنانون المهمون قبلي و كيف استطاعوا اظهار ذواتهم و اختراع عالمهم، و اعتقد أن الدرس الرئيسي هو ارسم عملاً جديداً، ذاتياً و خاصاً، كن قوياً، مدنساً و قديساً. لقد أخذت منهم معنى الحياة و قوة الأفكار.

  • أنت واحد من الفنانين الذين عملوا خلال تجربتهم الفنية على الانسان و الوجه البشري و تعبيراته العنيفة خصوصاً،أين تجد نفسك؟

  • قلت من قبل و أقول الآن، ليس من السهلالاحتكاك أو الاقتراب من عوالم الآخرين فدماغ المبدع موجود خارجه و موضوع على القماش و لا يمكن لك أن تتحمل طبخة مختلفة عن طبختك الخاصة. عندي يوجد حس ابليس و الشيطان أكبر، و التداخل بين اللحم و العظم، الوجه الإنساني ثم كسره عدة مرات في تاريخ الفن ، بيكاسو مثلاً حطمه و أعاد بناءه، طبعاً أنا اخترعت كائناً من الصعب أن تجد فيه خطأ رغم كل التغييرات التي جرت او طرأت عليه. بالنسبة لي أنا ضربت مثالاً للفنانين الشباب حول قصة نجاح، البعض أخذ معناها الذي يتعلقبالعمل المضني بقصد خلق شخصية و البعص الآخر جانبها الذي يعنى بتقليد الناجحين و هناك فرق كبير هنا. عشرات من الشباب قلدوا فنانين ناجحين في سورية و لبنان و كل الوطن العربي لكن النموذج الأساسي ظل حياً و ماتت التجارب التي تعتمد على التقاليد.

  • خلف الفنتازيا الواضحة و السيطرة على الأشخاص في أعمالك هناك صرامة في توضعهم، و هناك مؤشرات كبيرة على تكرار وضعيات، هل تكرر أعمالك حقاً؟

  • اشتغل المئات من الأعمال و هي تنطلق من أفكاري العميقة، ربما تشابه في شكل الظهور و لكنها ليست نفسها، كل عمل هو كائن حر مستقل بنفسه، موضوع الدرية و الزمن و الخبرة يجعل الأعمال تتناسل الواحدة من الأخرى بسهولة و يسر. و لكنني أبتعد عموماً عن المخاتلة و الرونق و الموضات الدارجة. يتقصد الفنان أحياناً أن يكون مرتزقاً أو عاهراً أو خاطئاً و لكن في النهاية يصل إلى اسلوب يركن إليه و إذا حوسب على أعمال سابقة يمكن ألا يكون راضياً عنها فهذا يصب في باب " الكيد العظيم". هناك قبيلة أو عشيرة من أعمام و أهخوال و أبناء عمومة و إخوة و أخوات و أحفاد. و تتم عمليات تلاقحمتواصلة بينهم... الفن بالنتيجة هو عمل واحد و لكنه شديد التشعب. و المزاج التعبيري يتطلب دخولاً مباشراً في العمل و تثبيت اللوحة من الآخرى باستمرار . الطاقة في عملي توليدية بينما عند بعض الفنانين يتم الأمر بعد دراسة عميقة تتطلبها معادلة كيميائية مختلفة. الخدعة التي تقدمها الأعمال في وهم التشابه كجالة حمار الوحش الذي نظن أن خطوط جميع أفراده هي نفسها بينما يكشف الفحص الدقيق اختلافاً كلياً لدى كل فرد منها.

    لم أعمل مطلقاً على أساس أن لدي معرضاً، فأنا أعمل باستمرار دون هدف موعد معين لمعرض ما، و برنامج عملي مفتوح لكل الاحتمالات للعرض و التسويق و أعتقد أنني مفرط في العطاء لعملي الفني. طبعاً من المستحيل أن يوجد تطابق بين أي عمل و عمل، عندما أنظر إلى أعمالي الآن أنظر باحترام كبير علي تحقيقه من خلال الفن و لم أفكر محلياً بل فكرت دائماً أن هدفاً عظيماً علي تحقيقه من خلال الفن و لم أفكر محلياً بل فكرت دائماً بالانتشار العريض نحو العالم...و قد ساعدتني بعض المؤسسات و بعض الأشخاص في هذا الانتشار و كان لدي أمل كبير في حسن سير العمل معهم و لكن يحدث أحياناً أن يكون هناك كذب و استغلال و لكن المهم أن عملي مع ذلك انتشر بصورة غير اعتيادية و من حسن حظي أن تصرفات كهذه أقنعتني بالعمل وفق آلية خاصة لأسوق لنفسي بنفسي.

  • هل ترى أن طرح شبهة التكرار أو انتاج كميات ضخمة من اللوحات يخفف من قيمة العمل؟

  • في تاريخ الفن هناك فنانون مهمون اشتغلوا على عدد محدود من الأعمال و كانت طبيعة عملهم أو ظروفهم تتطلب ذلك و لكن لديك نماذج مثل بيكاسو و فاتح المدرس الذين أنتجوا مجموعة ضخمة من الأعمال و رغم ذلك فمن الصعوبة الآن العثور على عمل لهم و قيمة أعمالهم مرتفعة جداً، و رغم أن هناك وهم تشابه إلا أنك إذا وضعت الأعمال جانب بعضها البعض تكتشف الاختلاف الواضح...إذا نظرت إلى أعمال رامبرانت و سوتين و شاغال ترى أن هناك رابطاً سحرياً بينهم رغم اختلاف الأساليب و عندما ترى هذه النماذج تستنتج أن على الفنان ألا يستهين بنفسه و يجب أن يضع رقبته بتصرف الآخرين و يدخل باحتكارات كما نرى الآن أو بعقود.

  • هل أفهم أنك ضد الاحتكارات التي تقوم بها بعض الصالات لفنانين رغم أن بعضهم و خصوصا الشباب قد استفادوا منها و لم يكونوا يستطيعون بيع لوحة قبل هذه العقود؟

  • إذا كان هناك احتكار لفنان من قبل غاليري فهي تستطيع ببساطة مزاجية أن ترفعه أو تنزله في أي لحظة تختارها تبعاً لتغييرات الموقف و الظرف... الفنان هنا مرتبط بفرد له ظروفه و حساباته المتغيرة و أجد أن هذا شيء قاس جداً. و مع الأسف فإن عددا كبيراً من الفنانين لا يمانعون في أن يتصرف البعض من المسوقين معهم مثل التصرف مع البغايا. طبعاً ليس من السهل أن يحصل الفنان على لقمة عيشه فالموضوع يتطلب شيئاً مضافاً إلى الموهبة هو موهبة التسويق.

  • هل لديك رأي في أسلوب التدريس بكلية الفنون الجميلة؟

  • قساوة الحياة هي المدرسة الرئيسية لتعليم الفن، و وجودي كفنان أكبر مثال حول طريقة أخرى للوصول إلى التعبيرالفني لا تمر بالضرورة بكلية الفنون الجميلة.

  • عندك فترتين صيفية و شتوية. الفترة الشتوية طباعة تسويق دعاية... تخزين صور و تفكير بمسارات فنية جديدة ألا يخطر على بالك الرسم في الشتاء؟

  • مناخي النفسي عموماُ لا يدفعني للرسم بشكل يومي، إنه بمثاية تجميع طاقة أثناء فترة زلة متواصلة تستمر لعدة أشهر فتصوراتي التي تبنى أثناء هذه الفترة هامة جداً لما بعدها، أدخل للموضوع دناغياً. افكك أحلل. رسمي هو جمع بين معادلة دماغية و بصرية. ربما يشتغل العديد من النانين مواضيع مشابهة، المهم هو إضافتك الشخصية مهما كانت بسيطة، و الانتقال من موضوع إلى آخر في العمل الفني ليس سهلاً بالنسبة لي فأنا غالباً أحفر بعمق في نفس المكان. و أجد أن تجربتي بحاجة أيضاً إلى 10 و 15 سنة لتتبين مناحاتها المتعددة, و أنا ألتزم بهذا الإنسان الذي أصوره.

  • أيضاً العمل في الشتاء يتطلب أضعاف الوقت على المستوى التقني إذا حسبنا حرارة الجو و الوقت الازم لجفاف الألوان و عدة عوامل أخرى. وأنا أعمل في الصيف بلا انقطاع و أنام أحياناُ في السابعة صباحاً و أحياناً تدق أمي الباب فلا أفيق نظراً للإرهاق فتظن أني ميت. و في مرحلة العمل المكثفة هذه أعمل في عدة لوحات بوقت واحد و عندما أنتهي من مرحلة من المراحل ليلاً أضع 20 مروحةحتى الصباح كي تجف الألوان تمهيداً للمراحل التالية. و عندما تراني في الصيف لن تعرفني فأنا لا أهدأ و لا أستقر و اجوب خلال اعمالي بضراوة. لم أشتغل بلوحة واحدة من الصفر حتى النهاية، دائماً هناك عدة أعمال و عدة مراحل.

  • يستخدم مصطلح التعبيرية غالباً كرداء فضفاض يشمل هامشاً واسعاً من الرؤى و ضروب العمل الفني المختلفة، هل تنضوي تحته أم ترى أن عملك يحتاج إلى صيغة تعريفية جديدة؟

  • أرسم بشكل دائم هذا الانسان الذي هو من صنعي و لا أهتم كثيراً بالمصطلحات. و عندما تعرض أعمالي فإن بعض هذه التفاصيل التي اخترعتها تتسلل إلى أعمال الآخرين نظراً لنجاحها. لا افهم و لم أستوعب إلى الآن لماذا الآخر يرسم شيء مختلف عني. إنها مسألة معقدة جداً فكل فنان ينضح بما عنده.

  • تحدثت عن كائناتك التي تعاني الاحتشاد في الحياة و ترتاح أكثر في العزلة التي توفرها لها في أعمالك. هل عانيت شخصياً من ضغط الاحتشاد و كيف تنعزل؟

  • سأعطيك مثالا لو أنني نزلت الآن و زرت إحدى الغاليريات و رجعت. أظن أنني سأحتاج لفترة 50 يوماً لأتخلص من ضغط التواجد و المشاهدة و تأثير الأمكنة. إن فكرة الاعتزال و التأمل ضرورية جداً و فيها نوع من الحصانة... أنا شخص مستقل، علاقاتي فيها ضرورة عمل أعرف أنها مؤقتة و اخول دائماً طاقة المال التي تتوفر لي إلى فني و بهذا أترك إرثاً يمكن أن يفيد عملي للمستقبل. و أقول لك لو أنني سلمت أمري إلى مؤسسة خاصة لتسويق أعمالي كما حدث في البداية لكان يلزمني 180 سنة لأحصل على ما حصلت عليه خلال سنة واححدة من سياستي الخاصة في إدارة تسويقي لفني.

  • سوف أسأل عن علاقة الحادث بالأزمة الوجودية و قضايا المو و الحياة.

  • بعد الحادث توفرت لدي شراسة أكثر من السابق و نوع من كسر العظم رفيع المستوى و هذا ليس موجهاً للآخر بل موجهاً لذاتي الداخلية العميقة. أنا أعتبر نفسي جثة هامدة الآن، و كأنني أعيش في الماضي و كأنني كسبت حياة أخرى، و بمعنى آخر فإن القادم لا يعني لي الكثير لقد ضاعف الحادث قدراتيو تصوراتي و رغبتي في العمل و الانتشار بشكل لا مثيل له. الفن هو تحديداً و حصراً الأمر الأولى برعايتي.

  • يجري أيامنا هذه استخدام مؤسسات فنية و مالية معروفة مثل مزادات كريستيز كرافعة للأسماء و أسعار بعض الفنانين السوريين، كيف تنظر إلى ما يحدث من سياسة خلط الحابل بالنابي و ضياع المعايير؟

  • اذا سألت أي مختص أوربي عن هذه المؤسسات فتستمع قهقهة كبيرة و طويلة... فهي مؤسسات تفتقر إلى الموثوقية و يمكن استخدامها بسهولة و المهم بالنسبة لها أن تربح. ما يحدث عندنا هو تداخل بين المجموعات الخاصة و المؤسسات الدولية لبناء قاعدة أو مرجعية لفنانين معينين تختارهم بعض الجهات لتمرير القروض او مبادلات اـو مسائل تجارية ما. هناك عدة قصص حول هذه المسألة و كلها جديرة بالاستماع و التحقق. و لكنها سوق وهمية على أية حال و هناك إلى جانبها سوق حقيقية تدر أموالاً حقيقية.

  • أعمال التي شاركت في بعض المزادات، كريستيز أو سوثبيز، هل قدمتها أنت إليهم؟

  • لا ، ليس أنا بل غاليريهات أو أصحاب مجموعات فنية، احياناً يشبه دخول عمل فني إلى منطقة تجارية إدخال قطعة قماش مقدسة إلى ثوب عاهر يعتقد من يلبسه أن القداسة ستشمل الثوب كله، أعتقد أن دخول الفن إلى المزادات التجارية يشبه ذلك و لكنه لن يستطيع تطهير هذه المؤسسات أبداً. أنت تعرف أن هذه المزادات ظلت مغلقة أمام الفنانين العرب طوال عقود طويلة فما الذي حدث الآن؟ الذي حدث أنه هناك كعكة كبيرة تمثلت في أموال النفط حيث ارتفع إلى أرقام قياسية قبل هبوطه الحاد الأخير و عندها فكرت هذه المؤسسات بسحب هذه الفوائض بأية طريقة و هذا فتح باباً لدخول مزادات كثيرة إلى الخليج. لا شك أن سوثبي و كريستيز مجموعات مهمة لفنانين مهمين و لكن عندما يتعلق الأمر بالإحياء و من منطقتنا تحديداً هنا تجدالحالات التي أسلفنا ذكرها و التي توجد ألعاب كبيرة. و أِكد لك أنهم عندما أتوا إلى العالم العربي لم يكن بفعل الحب بل من اجل فائض الأموال النفطية الموجودة في هذه المنطقة... فالقصة أولاً و أخيراً هي المال.

  • هل ترى أنه توجد علاقة مباشرة بين افتتاح كريستيز دبي و ما يحصل في سورية؟

  • طبعاً، هناك وصلة فتواجد طرف يحتم تواجد الطرف الثاني و إلا ضعف تأثير كل منهما و هو تواجد لا تحكمه الصدفة بل الاتفاق. هناك صالات قديمة كنت موجودة في المنطقة قبل قدوم كريستيز لدبي و هذه الصالات العمل فيها طبيعي لحد الآن. إنما الصالات التي افتتحت بالتوازي مع قدوم كريستيز لها صلة مباشرة بهذا القدوم. مع الأسف الفترة القادمة ستحتم التعامل مع هذه الأدوات الجديدة لصنع الفنانين و القيم الفنية لكن مع انتباه شديد.

    يجري خصوصاً في منطقة الخليج إقامة مشاريع ضخمة تدمج المال مع الثقافة و هذا سيعين بعداً جديداً لانتشار الفن في المنطقة. كما يجري بناء آلة طاحنة جداً و أمامك الخيار تمشي معها أو لا تمشي و هو خيار صعب على أية حال. بالنسبة لي طريقة عملي مختلفة لذلك لا أمشي معها و إنما بشكل مستقل تماماً. فأنا لست بغاليري و ليست لدي مجموعة من اعمال الفنانين الكبار لأتاجر بها أنا عندي فقط أعمالي و هذه أتصرف بها بطريقة مبتكرة و أبيع صفقات كبيرة و المشتري يتصرف بإقامة المعارض و الحرص على التسويق و أنا اساعده بطبع كتب أعمالي و هذا يدخل ضمن سياسة التسويق.

    هناك من فكروا بهذه الطريقة: أمامك سوق بلاد الشام و شمال افريقيا و الخليج إذا دفعت 200 مليون هل تتستطيع ان تسيطر على هذه السوق. الجواب نعم إلى حد بعيد فلم يسبق أن استثمرت في الفن اموال بهذا الحجم و بهذه الطريقة من شراء الأعمال إلى الدعاية و الحفلات و الصرف على الإعلان لكن في النهاية هل هناك بيع؟ أعتقد أن هناك كذبة كبيرة بهذا الشأن.

    طبعاً هناك رؤوس أموال مهمة و أكثر أهمية من تلك التي دخلت لعبة سوق الفن في سورية و لكنها لم تدخها و أعتقد أنه لولا ظهور أزمة السيولة في دبي و انعكاساتها على على المنطقة لكانت دخلت سوق الفن أموال إضافية أكثر أهمية من تلك التي دخلت لحد الآن.

    هناك الآن غاليرهات تدفع إيجارات ضخمة نستغرب من أين تحصل على مبالغها خصوصاً إذا حسبت مبيعاتها... هناك أحياناً أشياء غير مفهومة و لكن عالم الفن معقد طبعاً و 50 ألف أو مائة ألف دولار هي مبالغ تافهة في الخليج و تستطيع من صفقات بسيطة أن تحصلها فالسوق هنا هو صورة للسوق الاصلية التي تقبع في مكان آخر.

  • من اهتم بفنك و ساعد على الانتشار بهذه الطريقة؟

  • هناك عدة أشخاص اهتموا بعملي، مسوقي فن بشكل عام، و قد ساعدوا على انتشاره... و لكنهم سرعان ما انقلبوا علي بعد نجاحي و استقلالي عنهم و لن أذكر أسماء.

    و الحقيقة أنني لم أتعرض إلى لقاء مباشر مع المقتنين لأعمالي، و عموماً لا أعرفهم، فقد أوكلت هذه المهمة كلياً إلى المسوقين و ارتحت من العلاقة المباشرة المليئة غالباً بالتعقيدات. و أنا شخصياً لا أعرف إذا كان مشتر ما يملك مالاً أو لا، و هناك العديد من العوامل التي لا أفهمهاا و التي تدخل في تسويق العمل الفني، عوامل اجتماعية، اقتصادية، سياسية، شخصية نفوذ، مصالح، نساء ، دهاء... أنا بعيد كلياً عنها و لكنني في جميع الأحوال أدعم التسويق من خلال منظومة دعائية و إعلانية كبيرة و هي التي تخدم المسوقين بشكل جيد.

  • يفضل بعض الفنانين استخدام مصطلح فنان عالمي قبل أسمائهم، بعضهم عاش في سورية و عرض كثيراً في الخارج، و بعضهم عاش غالباً خارج سورية واشتهروا حيث هم، من هو في رأيك الفنان العالمي، و هل أنت فنان عالمي؟

  • كلام الشخص عن نفسه لا يعين شيئاً، الأفضل أن نترك للعمل فرصة الكلام حول مدى أهمية التجربة. اين هي أعماله؟ أين عرضت؟ أين اقتنيت؟ بالنسبة لي أنا فنان نشيط ومنتج، واذا سمعت فناناً يطلق على نفسه لقب عالمي فاعتبر ذلك مقلقاً. الفنانون المهمون الذين شكلوا علامات فارقة في الفن العالمي لم يطلقوا على انفسهم اللقب. و لم يظنوا او يعتقدوا أنهم سيكونون فنانين عالميين لقد اشتغلوا بإخلاص فقط و هذا هو المهم.

  • قلت في أحد التصريحات الصحفية أن تجربتك أعنف بكثير من تجرية فرانسيس بيكون و إيغون تشيللي و التعبيرية الألمانية عموماً رغم أن هناك صلة تربطك بهم.

  • ما هي هذه الصلة و ما هو في تجربتك الأعنف من تجاربهم؟

  • هناك قرابة بيننا... فالتعبيرية إن صح القول تجمعنا... العمل على الانسان بشكل دراميز هم قدموا العنف على الطريقة الغربية متأثرين بما حدث في الحرب العالمية الثانية بينما أقدم العنف على الطريقة الشرقية و في ذهني ألف ليلة و ليلة و خبالات المنطقة و احس بأن منطقتنا الجغرافية أكثر غنى، و العنف عندي أكبر و لكن بعده رمزي أكثر.

  • قرأت في أكثر من مكان تعبيراً يقول إنك من أهم فناني ما بعد الحداثة في العالم العربي. هل أنت مع هذا الرأي، و ما هي برأيك الصفات الرئيسية لما بعد الحداثة في الفن؟

  • عموماً لا أطلق تعبيرات عن نفسي، و لكن إذا سمعتها فهذا جيد بالنسبة لي. و لكنني أؤكد أنني صاحب مشروع، فنان نشيط لا يهداً. طبعاً التقسيمات ليست صحيحة بالمطلق. حداثة و ما بعد حداثة... هذا أمر مربك ففنان كفاتح المدرس مثلاً رغم أنه ينتمي زمنياً إلى فناني الحداثة اعتبره أنا فناناً مهماً لما بعد الحداثة. نحن في منطقة غنية تاريخياً على الصعيد اللاهوتي و الحضارات المتعاقبة =. لاحظ مثلاً أن هذا يعين اختلافاً على أكثر من صعيد فحس الرواية عند امين معلوف يختلف كثيراً عن الواقعية السحرية عند ماركيز أو العدمية عند بورخيس أو السوداوية عند كافكا... فعند معلوف هناك حس شرقي مميز.. في النهاية نحن الفنانون قبيلة وااحدة رغم الاختلافات في المنظور و الحس و الأسلوب.

  • من أين أتى في أعمالك هذا الاعالم الكابوسي، هل هو ثمرة تاريخ شخصي، او وقع عليه اختيارك من ضمن قائمة تشكيلية محلية أو عالمية طويلة؟

  • هذا العالم يمكن أن يبدأ مع قراءة صحيفة. فنجن محاطن بالألم، و الأخبار التي نسمعها عبر وسائل الإعلام يومياً مرعبة و البشرية تخضع لنوع معين من الأخوة و التضامن غير المرئي أحياناً. فالحروب التي مرت بالمنطقة و التي خضعنا جميعاً لتجربة مريرة خلالها ستنعكس عند الجميع بشكل أو بآخر. بالنسبة لي أعمالي تمثل انعكاساً لهذا العالم المعقد. فأنا التقط مثل رادار أي ألم انساني و هنا لا توجد تسويات إذ يجب أن تقول ما يجب قوله.

  • هل تعرفت على التجارب التعبيرية قبل خوض تجربتك بشكل عميق؟

  • أنا فنان متابع و أعرف ما يجري في العالم... و هناك كم هائل من التجارب العادية التي لا تهمني، و القليل من التجار المهمة. يوجد أدونيس و الماغوط و المدرس و فرانسيس بيكون... هذه أسماء كان وضعها في محيطها قلقاً و تمرداً. و هؤلاء بالنسبة لي قدوة و أحس أنني اشتغل على مسارهم نفسه. الآن يقف الفنان بصعوبة ليضيف شيئأً إلى هذا الكم الهائل من التجارب الفنية، و عندما يتميز بشيء مهما كان بسيطاً يحس بقيمة ما فعل و هذا الشعور ينتقل إلى الآخرين. و الأمر أشبه بكسب عدد أقل من اجزاء الثانية في مباريات الجري. بالنسبة لي أجد أنه من المهم جداً تحقيق و إضافة شيء حقيقي و خاص و أصلي.

  • من المعروف أنك تبيع أعمالك عن طريق صفقات بالجملة لغاليريهات أو مؤسسات و يقوم المشترون بالتصرف بها عن طريق إقامة معارض أو الاشتراك في مزادات هكذا حصل في باريس و نيويورك و لشبونة، و أنت لا تحضر هذه المعارض غالباً. لماذا اختلات هذه السياسة لغريبة للتسويق و العرض.

  • كان لدي بيكاسو في وقت ما خمس شقق في باريس مملوءة بلوحاته، وقد قرر أن يدعم نفسه بنفسه و أن يجري تسويقاً ناجحاً بالإضافة لانشغاله بالرسم و قد فكر وقتها أنه يملك الطاقة و القدرة و الأشعاع للقيام بذلك. بالنسبة لي لا أريد أن أدخل في اتفاقات غير مرغوب فيها. الغاليري لا تصنع فناناً، فهذه كذبة كبيرة و الصالات التي تعاملت معها لم تكن على حجم ابداعي، لذا قررت أن أقوم بهذا العمل شخصياً. مبعداً أمزجة الآخرين الشخصية عن هذا المجال، انا أعرف أن اللعبة هي لعبة تجارية للغاليريهات دخلت فيها أيضاً المزادات و الفنان لا يحصل إلا على الفتات في هذه التركيبة عدا عن أن مشروعه الذي سينقلب رأساً على عقب، فكلمة عقد أو احتكار تتضمن في عمقها أن الغاليري هو الذي سيوجه الفنان وليس العكس و هذا يقضي على الأساس الذيء يقوم عليه العمل الفني أقصد الحرية و النوع الجديد لسياسة التسويق الفنية عن طريق الاحتكار يقول لك مباشرة أن التاجر لا يفكر بتاريخ الفن إنه يفكر فقط بالمال أولاً وأخيراً. على أية حال أشعر أن الوقت ضيق فهدفي في النهاية هو الوصول إلى الناس و قد أعطت سياستي في التسويق النتيجة المطلوبة نظرا لانتشار أعمالي و للطلب الجيد عليها في الداخل و الخارج. أنا فنان منتج، و رغم أنني لا أرسم في الشتاء فهي فترة استمتاع بالنسبة لي و لكن انتاجي في الصيف ضخم جداً يصل إلى 700ـ أو 800 لوحة من المقاسات الكبيرة عدا الأعمال الورقية.

  • أنت تعلم أن من يقتني الأعمال الفنية خصوصاً الأعمال ذات الأسعار المرتفعة هم الأثرياء في الداخل و الخارج، كيف يمكن أن تصل أعمال بهذه الدرجة من التعبير القاسي كأعمالك إلى صالوناتهم؟

  • أنا أستغرب ذلك أيضاً، بل حتى الآن أستغرب كيف تباع لوحة لي و أعتقد أن بيع لوحة على العموم هو أمر معقد و صعب و أظن ان الفنانين الذين لا يبيعون لوحاتهم يبكون بكاء داخلياً مراً و هذا شيء محزن فعلاًو لكن العالم الذي تصفه بالقاسي يمكن له في لحظات معينة أن يتحول إلى اكثر من احتمال و هذه الاحتمالات تتعلق بالوقت الذي تراه فيه و الحالة السيكولوجية التي أنت فيها. خذ مثالاً موقفنا من الطعمات المختلفة فالطفل يحب الحلو كثيراً و عندما نكبر تأخذنا تجارب الطعمات المختلفة، الزيتون المر، القهوة المرة..إلخ مع تقدم العمر تزداد خبرتنا بالحياة و نستطيع أن نتقبل واقعاً مراً كالذي أقدمه لأنه يزداد اكتشافنا للألم الانساني و العقد و الكذب و التزييف و نحتاج إلى شيء يذي روحنا. الناس بحاجة إى أن يشاهدوا شيئاً حقيقياً. بعض الأعمال تقدم تواطوأ مع المشاهد بينما أقدم أنا شيئاً صادماً يتذوقه الكثيرين لأنه حقيقي و أحس أننا نحصل على تغذية روحية هائلة من الألم.

  • هناك سلسلة كتب ضخمة و فاخرة ترصد تجربتك الفنية، من يمول هذه الكتب؟

  • لقد أنفقت من جيبي الخاص على إصدارها حيث لا توجد جهة تقوم بإنتاج مكلف كهذا على الفن التشكيلي أصدرت بشكل شخصي حتى الآن أربعة كتب و هناك كتابان قيد التحضير و الذي حصل أنني اخترت أن أقتطع جزءاً من مبيعاتي لطباعة كتب تعرف بتجربتي و هذا كان عملاً ناجحاً و مفيداً جداً و ما هو مهم فيه إلى أبعد الحدود هو الحرية التي يتيحها للتحدث و وضع نصوص وصور أعمال دون ضغط أو إملاء من احد.

  • على الفنان أن يرتكب المصيبة و على الآخرين أن ينشغلوا في تفسير هذه المصيبة عن أية مصيبة تتحدث عندما قلت هذه الجملة؟

  • عندما تشتغل على اللوحة لا تفترض انك مجبر سلفاً على شرح كمائنها وعندما تكون الأعمال إشكالية، مثل أعمالي سيكون من المفيد أن يكون هناك عدة اضاءات و وجهات نظر حول العالم. ما يدور فيه و ما يعلنه و ما يخفيه.

  • هل من الصعب تقبل نجاح الـآخر؟

  • الرسم شيء صعب و فيه مكابدة كبيرة، و النجاح و الشهرة تخلق عالماً من عدم الاستقرار عند الآخر يحاول أن يطعن فيه ما أمكن.

  • قلت دائماً أنك لا تشارك في معارض جماعية و تقرأ كثيراً عن معارض جماعية فيها أعمال لك. ما سبب هذا التناقض؟

  • أنا لا اشارك في معارض جماعية أبداًن و أستهجن أن تكون لي لوحة معروضة في معرض جماعي أو مشترك دون علمي و كنت افضل لو دعيت كفنان إلى محاضرة لشرح تجربتي و التحدث عن اعمالي و هذا سيكون أكثر فائدة للجيل الشاب من تعليق عمل يتيم لا يستطيع تمثيلي في أي معرض مشترك. هناك مقتنون اشتروا مني أعمالاً و هناك من أهديته أعمالاً على سبيل الصداقة أو اللفتة الكريمة، أحياناً يضعون اعمالي في معارض جماعية و مشتركة لبيعها و أعتقد أن هذا خطأ. لا أحب المعارض المشتركة لأنها لا تعطي فكرة جيدة عن الفنان الواحد الذي يحتاج إلى إعطاء فكرة جيدة عنه كثيراً من الفضاء و التنوع.

    أحياناً اوصل انزعاجي خصوصاً للأشخاص الذين أهديتهم أعمالأً و شاركوا بها في معارض، بأنني اجد أنه من المعيب فعل ذلك. هناك فوضى غريبة و انعدام حس أخلاقي لدى الكثيرين من البشر مع الأسف.

  • تكثر من الحديث عن التسويق الداخلي و الخارجي لأعمالك، و تقوم فعلاً بحملة غير مسبوقة في الصحافة المكتوبة و أيضاً في الإعلانات الطرقية الضخمة و في نشرات ثقافية مختلفة، ألا ترى أن هذا يثقل كاهل الفنان داخلك؟

  • كل ما يجري في العالم الآن من العولمة حتى التغييرات الاقتصادية الكبرى، كل هذا المال الورقي هناك رغبة بتحويله إلى طاقة، بضائع ،أشياء، يجب ان يشترى به شيء ما، هناك نهم في العالم نحو الشراء و عدم الاحتفاظ بالمال. و ما أتوقعه في السنوات القادمة ان هناك توجهاً كبيراً نحو شراء الفنون و أنا أعمل كي أكون جاهزاً بأعمالي لهذه المرحلة و سيكون الطلب كبيراً و فيزمن قياسي. إن توفير طاقة عمل و مخزون هائل من الأعمال هو في صلب اهتمامي للمستقبل. الورق لا يحتمل أن يظل ورقاً و ستجد في النهاية أن الأعمال الفنية تباع و لا يتبقى عند الفنان إلا أعمال قليلة أو لا يتبقى على الإطلاق.

  • أنا اول فنان شاب يعرض في المركز الثقافي الفرنسي و فيما بعد غير المركز سياسته و بدأ يعرض معارض للفنانين الشباب ، و فيما بعد عرضت في بيروت و تعاملت مع صالة أوصلتني إلى دبي و هناك عندما ذهبت راقبت و تعلمت و اعتقد أنهم أخطأوا باصطحابي إذ عرفت و قتها الكثير من الأسرار في وقت محدود و قررت أن أعتمد على نفسي بتسويق فني و هذا ما حصل. لقد قابل من تعاملت معهم عطائي الشديد ببخل شديد و هذا ما دفعني إلى التسويق لنفسي بنفسي و الآن أعتقد أنهم شعروا بحماقة تصرفهم معي و لكن ما فات مات على أية حال. و أجد الآن سهولة كبيرة في التعامل مع عدد من المسوقين و هم يرتاحون لأنهم يتعاملون مع شخص واحد يفهم عليهم و يفهمون عليه.

    غالباً كان البيع مخفي حيث كانت تؤخذ أعمالي و تختفي دون ان أعرف إذا بيعت أم لا و لكن كانت انباء بيعها و توزعها في الغاليريهات و البيوت تصل إلي و هكذا عرفت أن فني الذي أظن انه حبيس المستودعات قد بيع و لم يصلني ما كنت أنتظره نظير بيعه و بعد فترة صار المشترون يأتون إلي عوضاً عن أن يذهبوا إلى من يمثلني و هذا كشف حقيقة اللعبة و جعلني أغير سياستي. لقد ساعدوني في الانتشار، و رغم خسارتي المادية آنذاك، ربحت في النهاية. و الآن يتصرف بعض أصحاب الغاليريهات في صراعهم على التسويق مثل علاقة الحيتان في المحيطات ، الأكبر يأكل الأصغر ... و هكذا، و لكنهم يأتون إلي غالباً حين يروا أعمالي في أماكن يتمنون التواجد فيها و التسويق لها، أنا فنان مستقل و الآن هناك أدوات مختلفة للصراع في السوق. الىخر يلعب على سياسة تغييب الاسماء و منها اسمي و انا بما امكنني من طاقة و ملاءة مالية أقول أنا موجود. موجود كفنان و أعمالي موجودة بكثافة في السوق و موجود أيضاً على المستوى الاعلاني، في المجلات المتخصصة و اليوميات الثقافية و و الاعلانات الطرقية و هو أمر مستمر. صحيح أنه مكلف جداً و أنا أتكفل بتغطية نفقاته الباهظة من جيبي الشخصي. ليس وجود هذا الكم من الاعلان بالشيء البسيط على من يحاولون طمس اسمي لاحظ مثلاً اعلانات بقياس 3/12 مترا على طول طريق دمشق بيروت و في قلب دمشق هذا ليس بالأمر البسيط . كما ليس بالأمر الهين مثلا في لبنان ان تظهر على غلاف أشهر نشرة اعلامية نظامية لمدة سنة. بالتاكيد هذه سياسة جديدة كلياً يقوم بها أي فنان بشكل فردي و مستقل. و أعتقد أنني بهذا أوجه نوعا من التحية... انظروا انا موجود، و لكن لا تنسى أنه اولاً و أخيراً فإن هناك لوحة، و قد بنيت كل هذه التفاصيل على اشعاع هذه اللوحة و كل هذه الاعمال من تسويق و اعلان و ألعاب مختلفة بنيت على هذه اللوحة و لم تأت من فراغ.

    و اؤكد لك أنني لو لم أبع أي لوحة في تلم الفترة لكنت ذهبت إلى جبل قاسيون و ألقيت بنفسي من هناك.

    في تاريخ الفن هناك فنانون و قفوا عند الحس الثقافي الأكاديمي و لم يخوضوا غمار تفاصيل ما بعد إنجاز العمل و أحس أنني في إقدامي على مغامرتي أشبه "موليير" أبو المسرح الفرنسي فقد دمج الثقافي مع العملي و أنشأ مسرحاً ممتازاً. هناك العديد من الغاليريهات و المسوقين الذين يتعاملون معي و هم متورطون معي لأن لديهم كم كبير من أعمالي، و في هذه الحالة لا تستطيع مؤسسة أو فرد إلفائي أم الذين يرتبطون بصالة واحدة فإن سقوطهم سيكون مريعاً في حال جرى التخلي عنهم و هذا فرق مهم.

    دمشق

    20/8/2010